الجمعة، 6 مارس 2009

تقبيل الأيادي: وهم الترابط العائلي


في لقاء تلفزيوني دار جدل بين الأميركية ناديا سليمان (التي أنجبت ثمانية أطفال لينضموا لإخوتهم الستة الآخرين) وبين والدتها التي تكاد تجن من عدد المواليد المحرج الذين ستصطحبهم ابنتها أينما ذهبت أمام مرأى الجميع في بلد عدد أفراد الأسر به محسوب بعناية.
العدد 14 أذهل الشارع العام الأميركي ونال تغطية إعلامية ضخمة بسبب طريقة الإنجاب دفعة واحدة وهول العدد، وصارت أم الـ14 حديث البرامج والصحف والمجلات.
لعل أصلها الشرقي قد شدها للعائلة الكبيرة، ودفعها لإنتاج كم هائل من الأطفال دون التفكير حتى بكيفية إعالتهم، إذ كان حلم حياتها كما تقول تكوين عائلة كبيرة..
العائلة الكبيرة...
مفهومها يعني أبناء وبنات وعدد كبير من الأحفاد وعدد أكبر من العلاقات المتناقضة فيها الحب والشر والصداقة والغيرة والحسد.
كأنها قرية صغيرة محيطها المنزل الكبير. لا يهم أن يكون أفرادها وحدة واحدة فالمسألة تتعلق بالكم وليس بالكيف ولا بالنوع. ولو أنها تعلقت بالنوعية وبروابط المحبة الخالصة لاقتصر الأمر على ثلاثة أو أربعة أبناء.
ولا يهم أن يمتلك مؤسس العائلة الكبيرة القدرة على التعامل مع كافة الأعمار من أبنائه، فلا شيء يضاهي الشعور بفخر الإنجاب المتواصل وبفحل لا يشيخ.
على حساب مَنْ؟
يعرف أبي شخصاً لديه خمس وأربعون ابنا وابنة. كان يسير في الشارع برفقة أبي حين جاء طفل تاركا رفاقه يلعبون وتوجه نحو رفيق والدي وشرع يقبل يده. مد الرجل يده للطفل وسأله وهو يقبلها: ما ألطفك، ابن من تكون؟ تعجب الطفل ورد منكسراً: أنا ابنك.
سألت أبي: طالما أن الرجل لم يعرف أنه ابنه، لما سمح له بتقبيل يده؟
أجابني: طبعا هذا كل ما شد انتباهك في القصة! أقول لك إن المصيبة أنه لا يعرف أشكال أبنائه.
قلت له أمازحه: وأنت كم حفيد الديك؟ فكر لبرهة قبل أن يجيب: والله يقولون صاروا ستين.
«عدم معرفة أشكال الأحفاد أهون بكثير».
ما شدني بالفعل في القصة هو الطقس الأبوي الذي يمارس محلياً عبر العصور. عادة تقبيل الأيادي.
تقبيل يد الغير بصفة عامة فيه خنوع ومذله وإسقاط للكرامة، تمرد عليها الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز قبل سنوات عدة ومنع تقبيل أيادي المسؤولين بأمر ملكي كخطوة لتخليص النفس الحرة التي تأبى الانحناء لغير الله.
أما عائلياً فعرف عنها أنها عادة حميدة ومحببة، فيها احترام للكبير وشعور بالتقدير نحوه. لكن تلك العادة صارت تشير إلى طقس رسمي والمستفيد طرف دون الآخر..
هي إعادة تعريف يومي للدرجة الأسرية للفرد ورتبته العائلية. تقبل اليد في الصباح فلا يعود بإمكانه الوقوف أمام أبيه وجها لوجه لقول كلمة لا.
كلما اجتمعت العائلة أرقب ردة أفعال الكبار عندما تقبل أياديهم.. كان جدي حين يصافح أمي يقبل جبينها فتفاجئه بمحاولة جديدة لتقبيل يده، ولم تنجح محاولاتها على مر السنين إذ كان يسحبها فوراً. وهي بدورها اليوم تمارس ردة فعل أبيها تجاه ذلك الطقس العربي فلا تسمح لنا بتقبيل يدها حتى لو حاولنا أن نشدها رغماً عنها. وعلى النقيض فإن أول ما تفعله يد أبي عند إقبالنا لتقبيل وجنتيه هو الارتفاع إلى مستوى يشير إلى أن اليد أولاً، وقبل الخدين.
بعض الآباء تجاوزوا تلك النشوة الظاهرية إلى ما هو أهم، إلى أبنائهم، وبعضهم غرق بحلاوة الفوقية.
كيف هي العلاقة بين أب وعشرين أو ثلاثين ابنا وابنة؟ وكيف يمكن لأم 14 أو 12 أن تعي متطلبات الجميع.
الرابط بين الأب وأفراد العائلة الكبيرة يفتقد للعمق أحياناً وينحسر إلى قبلة على يد، خالية من أي واجبات أو مسؤوليات أبوية.. والبقية الباقية من الواجبات والعواطف والصداقات مع الأبناء تحملها أكتاف الأم وحدها.
دائما نعجب منها. مقدرة أمي على معرفة احتياجات كل من في البيت مذهلة. وفن إنصاتها لابنائها لا مثيل له. لكن ذلك كله يستنزف من عافيتها ومن عمرها. وهي تصر على أن ذلك الاستنزاف مصدر لسعادتها. العائلة الكبيرة تستنزف النساء الأمهات. ففي العمر الذي ينبغي عليها الالتفات لنفسها والتمتع بالدنيا.. يكون جيل جديد من أبنائها قد دخل سن المراهقة وعليها الالتزام بتهذيبه.
لا أظن أن حلم الأمومة قد خلق مع جميع النساء، بل نحن صنعناه. وأبقينا حياتها رهنا بإمكانية تحقيقه على أكمل وجه.
في صغري كانت أمي كلما حبلت أمازحها قائلة: هناك ارتفاع مطرد في السكان وأنت تساهمين بتقليص الوقت الذي يفصلنا عن الانفجار السكاني.
ترد بعصبية: اسكتي بس، كل وحدة تتمنى يكون عندها اخوات.
- فهمنا اخوات، مو عشيرة كاملة في بيت واحد..
الآن أخبرها أن أجمل شيء فعلته لأجلي هو إنجابها لشقيقاتي وهن صديقاتي الوحيدات. هذا جانب العائلة الكبيرة المشرق.
الجانب المظلم يعرفه الجميع، ليس أسوأ من إخوة بالدم وعلى الورق فقط، دون أدنى شعور عاطفي تجاه بعضهم البعض.
لذا فتنظيم الأسرة يعني جرعة قليلة لكن مركزة جدا من الأبناء المترابطين. تنظيم الأسرة يعني التزام باحتواء الابن إلى أن يكبر بدلا عن رميه بيد الأقدار وانشغال الأب بتكوين مزيد من الأجنة فيما يقف الابن منتظرا دوره في الصف الطويل للانحناء وإلقاء القبلة الرسمية.
ليس أفضل من تحديد النسل كوسيلة لأسرة مثالية وكاملة.
حين توصلوا لتنظيم الأسرة عربياً تغاضوا عن مسألة مهمة وهي: من يحق له أن يكون أبا ومن لها حق الأمومة.. على عكس الغرب الجميع هنا بلا استثناء يمتلك هذا الحق.. أما هناك فيسحب الحق بأمر من السلطات إن لم يمارسه الأبوان على أكمل وجه ملتزمين إزاء الأبناء بحياة كريمة خالية من جميع ألوان العنف حتى النفسي.
رضا الأب مسألة روحية وليست مجتمعية فقط، لكن ماذا عن رضا الابن. وواجبات الأب تجاه ابنه أو ابنته.. أليس من أنجبهم مسؤولا عن رعايتهم معنويا لا مادياً فقط؟
أليست مسألة واجب وضمير أن يعمل على التقريب بين أبنائه وعدم الاكتفاء بتقريبهم من كفه فقط؟


نادين البدير
كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=116622

* و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9868