الجمعة، 27 مارس 2009

كلنا رسل للقانون


إذا كان غسيل الأدمغة قد دفع للاعتقاد بأن سيادة القانون أمر مخالف للعقيدة.
وإذا كان ذات الغسيل قد دعا للإيمان بأن مؤسسات المجتمع المدني هي عمل شيطاني.
وإذا كانت السلطوية قد جمدت عمل التجمعات المدنية ومنعت الاتحادات والنقابات وكل تحرك حقوقي من مزاولة النشاط في بعض الدول.. في حين سمحت الحيلة السياسية بنشوء تلك التجمعات في دول أخرى لكنها أبقتها في حيز دائرة (مع وقف التنفيذ)..
وإذا كانت الجريمة قد انتشرت في بلد ما وأصبحت كالخبز اليومي، والمجرمون نجوا من الاتهام وصار لهم شأن مهم، يحترمهم السياسي قبل المواطن العادي..
فهل من أمل بتحقيق حلم سيادة القانون؟
نعم وأمل كبير..
هذا ما تحكيه قصص أبطال حاربوا الجريمة والفساد.. لم يصمتوا بل صمدوا أمام المجرمين وسارقي أمن المجتمعات.
المؤلف الإيطالي روبرتو سفيانو نشر روايته (غومورا) عن مدينته التي يحبها نابولي والتي شوهتها مافيا كامورا وتفشت بها حد الجنون. لشجاعته أصدرت المافيا بحقه حكم القتل، لذا يسير اليوم برفقة مجموعة من الحراس، لكنه لم يخشَ من فعلته الوطنية، فدماء حب أرضه تمنعه من التوقف عن المطالبة بالعدالة.
روى روبرتو في كتابه عن شاب يكشف جرائم وحقائق تنشر لأول مرة عن مافيا كامورا التي توطنت في كاسال بنابولي وأخذت تعيث بها قتلا وتدميراً وتجارة محرمة دون رادع أو اللجوء لقانون عادل.
ولولا إيمان روبرتو بأهمية القانون ما ألف روايته المميتة.
الطاقة التي كتب بها روبرتو روايته لا بد وأن انتقلت لي أو لغيري، ما قام به ليس عملا محليا خاصا بمحبوبته نابولي، بل هو عمل عالمي يدفع عشرات الآلاف غيره من محبي أوطانهم إلى الاحتذاء به.
إنها ثقافة الوطنية تنتقل بين أفراد الشعوب المختلفة.. ثقافة المطالبة بحكم القانون.
ذلك تحديدا هو عنوان المنتدى الذي انضممت إليه قبل عامين وأصبحت عضوة به.. منتدى ثقافة القانون..
ومفهوم ثقافة القانون بحسب تعبير روي جدسن (البروفيسور في جامعة جورج تاون ومؤسس مشروع ثقافة احترام القانون) '' ثقافة تقتنع فيها الأكثرية بأن حكم القانون يتيح أفضل فرصة على المدى البعيد لضمان الحقوق، كما تقتنع بأن حكم القانون قابل للتحقيق وهي ملتزمة بالدفاع عنه...''.
''في ثقافة احترام القانون تؤمن الغالبية بأن الامتثال لحكم القانون أفضل سبيل لخدمة المصلحة العامة والمصلحة الشخصية كما لحمل الحكومة نفسها على اتباع حكم القانون..''.
هناك فارق بين حكم القانون والحكم بالقانون حيث يسنّ أصحاب النفوذ أو النخبة القوانين ويسيطرون بها على الضعفاء.
أهم ما جاء بمفهوم روي لثقافة القانون هو أن مكوناتها يمكن أن تبنى في جيل واحد فقط، بحيث يقتنع المواطنون، الذين يتخذون من القانون مثلا أعلى، أن باستطاعة مجتمعهم الانتقال لحكم القانون لكن يتعيّن عليهم وعائلاتهم وأصدقائهم تأدية دور ناشط في تعزيز ثقافة احترام القانون المطبقة والإبقاء عليها.
أهم الأسئلة التي يطرحها روي: من المسؤول؟
يقول إن الجميع يضع المسؤولية على الدولة أو الاقتصاد أو غيرهما ولا أحد يتهم نفسه.. لا أحد يحرك ساكناً، فكل فرد بانتظار أن تأتيه العدالة من المجهول..
كل أفراد المجتمع هم مسؤولين برأيه، لا الدولة ولا الاقتصاد فقط.
منتدى ثقافة القانون لا يضم قانونيين بل أفراد من مختلف المواقع. إعلاميون، منتجون، مخرجون، أساتذة جامعات، ممثلون سينما.. كل له مشروعه التوعوي الخاص، وقد يضم مستقبلا طلاب جامعات ومدارس أيضاً..
ونتطلع لتوسعة المنتدى عبر مشاركة المزيد من الأفراد وتلقي المزيد من الأفكار. الجميع يجب أن يشارك في الرسالة السامية الجديدة.
ما يهدف إليه هذا المنتدى العالمي هو نشر الإيمان بين الأفراد بأهمية القانون، وهو أصعب من مطالبة الدولة باستحداث قانون..
أن تعيد صياغة قيم الأفراد أمر به تعقيد، فكيف يؤمن المجتمع الذي يعتريه الفساد ويصمت، المجتمع الخائف من لحظة الوفاة، أن باستطاعته وحده إنهاء الجريمة؟
ويزداد الأمر تعقيدا إذا وصلنا لدول تحرم مؤسساتها الدينية العمل المدني وتتهم القانون المدني بصفته قانون كفر وبغاء.. كيف يؤمن أفراد تلك المجتمعات بأن السيادة للقانون لا لنزوات مفسري النصوص؟
كيف ننشر ثقافة احترام القانون في بلد ليس به قانون، يحتكم الجميع إلى علماء مختلفين فيما بينهم حد النخاع وتتغير أقوالهم المقدسة مع تغير أحوالهم وأوقاتهم؟
هل نطلب سن دساتير أولاً؟ أم نبدأ بتوعية الأفراد بالجريمة التي حدثت بحقهم.
الجريمة التي هي أقسى من جرائم نابولي.
في نابولي يعاني المجتمع ويعلم أنه يعاني.. أما في هذه الحالة، التي يسود بها حكم (البلطجة) وقطاع الطرق بشكلهم العصري الجديد، فيعاني الشعب ولا يعلم أنه يعاني.. مجرد توعيته بمشكلاته ستلقى هجوما من الشعب ذاته الذي خضع لأكبر علمية غسيل مخ جعلته يرى الظلم عدالة.
أجريت حوارا في برنامجي حول مؤسسات المجتمع المدني في إحدى الدول الخليجية. وجاءتني الردود..
يقولون إن مؤسسات المجتمع المدني شيطانية، التسمية البديلة: مؤسسات المجتمع الديني.
يقولون إن نقابات المهن المختلفة كفر..
مفهوم القانون بنظرهم هو الابتعاد عن الدين وحكم البشر بدلاً عن حكم الله.
فهل نضيع الوقت بحثاً عمّن شكل هذه العقلية لنلقي اللوم عليه؟ في الوقت الذي يصر روي على أننا مسؤولون جميعنا..
كنت دخلت بالأمس جدلاً مع صديق يؤكد بأنه لن يتغير شيء طالما أن الأنظمة (المسؤولة) رافضة للتغيير. قال إن جرة قلم من أي نظام بإمكانه تعليق العدالة أو الدفع بها. ''فلم تضيعين حياتك وأنت تكتبين عن العدالة؟ عن شيء لن تملكي القوة يوماً لتغييره..''.
صديقي هذا لم يحضر منتدى ثقافة القانون الذي بدأناه في إيطاليا وانتقل لأبوظبي ثم البحر الميت، واليوم أكتب هذه السطور خلال الاستراحة بين جلساته في العاصمة بيروت..
صديقي لم يتذوق حلاوة الاستماع لقصص أبطال عالميين ولم تدمع عيناه أمام مشهد أعينهم تفيض بالدموع وهم يتذكرون إصرارهم ونجاحهم في مواجهة العنف باللاعنف.. واللامدنية بالشرعية والهوية.
كل قصة رويت من أحدهم كانت دليلا كافياً على أن كل فرد هو المسؤول.
كلنا رسل للقانون.
إذا قال فرد واحد منا: لا.. فسيتبعه الملايين وستسقط أجهزة فاسدة بأكملها..
في بيروت قرأت أمام الحاضرين البيان التأسيسي للمنتدى، شعرت أني أعلن عن قيام دولة.
رغم أن المجموعة أمامي كانت صغيرة لكني شعرت أني أعلن عن تأسيس أهم حدث تعيشه الشعوب.. ثقافة احترام القانون.
.


نادين البدير

كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/alrai/Article.aspx?id=121492

* و منشوره ايضًا في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10095