الجمعة، 20 مارس 2009

كـــــل ســـنة وأنــــتِ مـــامـــا


تذكرين أمي من علمني أن أنام تحت السماء؟
قلتِ لي إن النائم تحتها بإمكانه الإبصار، باستطاعة عينيه المغمضتين رؤية القمر وتأمل النجوم.
وتذكرين كيف علمتني أن أكره العتمة؟ أن أبقي الستائر والنوافذ مفتوحة، لأحكي مع الأفلاك وكل الكائنات؟
أنا لم أخش رواح النهار يوماً مثل بقية الأطفال.
أحببت الليل مثلك، رأيتك تعبرينه وتثبتين أن لليل ضوءا، ضوء لا ينضب اسمه أمي.
وأحببت الفجر.
صار الفجر ملكي منذ أيقظتني لأعيشه وأنا في السادسة إلى أن تخرجت.
وحين يطلع النهار، وتجتمع الأمهات والأبناء، ليست دروس أمي كوصايا الأمهات، لم ترد أن تهب البشرية إرثا جديدا من الحريم.
فلا ضيعت الوقت معنا بتجميل مهنة النخاسين، ولا أبهرتنا بحكايات الأمير والجارية الحسناء الحزينة.
(إياكِ والخوف) كان أول دروسها: نحن النساء لا يضيعنا سوى الخوف..إن أظهرت ضعفكِ قضى عليك.
أول درس كان الأهم. الخوف من المجهول الذي يسيطر على ملايين العربيات لم يعرف طريقه لنا لأنك أبعدت شبحه عنا، ربطت انتفاءه بالكرامة والشجاعة.
سردت لنا أمي قصصا عن رجال ونساء من الزمن البعيد والقريب كيف أن شجاعتهن أدامت بقاءهن، قصصت لنا بطولات شعوب الأرض التي لم تخف، التي نجت لأنها لم تخش قط.
في كل مرة أضع عيني في الأرض أتذكر أوامرها بأن عين الأنثى حارسها، والحارس لا ينم ولا تجفل عينيه. كذلك عينيها متيقظتين متوثبتين دائماً، عينا الأنثى الحقيقية، تقول أمي، تخيفان الأشرار الذين يبحثون عن صيد ثمين. يعرفونه في عينين خائفتين خجلتين معلقتين بالتراب.
لم يكن يربكني أكثر من صوتها وهي تلاحقني في كل الأوقات قائلة: ارفعي صوتك، الصوت المنخفض صوت كسير فيه إيحاء لدعوات غير حميدة وأنت في مجتمع تفسيراته ليست حميدة في معظمها.
درس النقد كان أصعب الدروس.
عدت يوماً إلى البيت لأقص بانبهار نبأ يتداوله الجميع. فاجأتني ردة فعلها كالعادة، رأي مغاير لما اتفق عليه كل من صادفته. لديها رأي خاص في كل مناسبة، لم يحدث قط أن انساقت وراء رأي المجموع، فقط لأن الغالبية اتفقت عليه.
كنت لا أفهم كيف أنك الوحيدة في محيطي العائلي التي تمتلك رأياً فردياً. وصرت أنا ممن ينادون بالآراء الفردية. ليس أخطر من التفكير بصوت المجموع.
من مكتبتك تعلمت أقرأ. تاريخ فرنسا وروايات همنغواي وألمع أسماء العربيات، منها تعلمت أن أكتب. لن يخطر ببال أحد أن أرففها الثقيلة المليئة بالدين والعلوم ملك لربة بيت تطبخ وتعتني بصغارها وصغيراتها. كما لم أنفق في صباي الكثير على الكتب والروايات، كانت جاهزة وأمامي دوماً. وحين كنا ولازلنا نلتف حولها في ساعات العصر لتسرد لنا قصص استقلال شعوب العالم بطريقتها الأنثوية القوية، يخيل إلينا لبرهة أنها كانت تعيش تلك الأزمنة.
من مكتبتك اصطدت (أنا حرة) وأخذت أتبع نهج عنوانها المثير.
أفكر عادة بما كان سيحدث لو لم أتطفل على كتبك وأقرأ ما تقرئين. لو أني كنت بنتاً مطيعة للطفولة واكتفيت بماجد ولولو.
وأتساءل أني حين كنت أنشد الحرية، هل كنت أتحرر منك أم لأجلك؟
خشيت أن أتحول لحياة العطاء اللامحدود. عطاؤك الذي ليس له شبيه.
إنسانة واحدة لا تعرف أن تأخذ أبداً، لم يحدث ورأيتها تأخذ. هي أمي.
وتعلمين أني في بعض الأحيان كرهت الأمومة منك؟ جعلتني تضحياتك الجليلة أربط الأمومة بالفناء.
أنجبتنا وتخلت عن كل شيء، حتى عن الحلم. كان خيار أبي إما طموحها وإما نحن فاختارتنا. تركت العمل والحرية وتخلت عن الاستقلالية، اكتفت بأن تحكي عنها فقط.
كثيرا ما جرفتني الأفكار فظننتها قد ندمت على حياتها الأولى، وأنها تنتظر سفرنا أو زواجنا لتهدأ وترتاح من صخبنا.
لكنهما حين جلسا (وحيدين) على طاولة طعامنا التي أصبحت شبه صامتة بعد أن باعدتنا الحياة قليلاً عن حضن أمي.. أسمعها اليوم تقول لأبي: تلك سعادتي، كانت وأنا أراقب شجارات أطفالي وضحكاتهم على مائدة الغداء، تلك تريد الجلوس بقربي وآخر بقربك، كانت أذناي تطربان لسماع ذلك النزاع الطفولي الذي أرهقك.
لم أعلم قبلها أن أمي كانت سعيدة بشجارنا وضحكاتنا المرتفعة، حسبت أننا كنا نؤرق صحوتها ومنامها ونذكرها بماض سرقناه منها، لم تفصح يوماً عما يمكنه أن يسعد قلب الأم.
الأم التي لم تفرق مطلقاً بين تربية ولد وبنت..
أمي التي دفعتنا دفعاً ليكون لنا أحلام.. قالت إن العمل والسفر يكونان الإنسان.
ماما التي لا أذكر أنها عانقتنا بأيديها يوماً، لكنها حتى اللحظة تحيط أرواحنا أينما ذهبنا بهالتها الحنونة.
وأنا صبية..
كم كرهت شعري المعقود. وكم حقدت على ضفائري. كنت أحلم أن أنثر شعري في الهواء دون وثاق. حلمت أن أفك عنه الشرائط والألوان، أقسمت أني سأحله يوماً وسأفك كل رباط.
وبعدما حطمت حائط الممنوعات، وبعد لهاثي وراء موجة الأحلام.
اشتقت وأشتاق لضفيرة تجدلها أمي. بل ضفيرتان ترميهما على كتفي.
وحنيني مرير لمشط قديم كانت تؤلمني أسنانه.. لو أني تركتها لتغرس برأسي كيفما تشاء.
وأنا صبية..
كنت أجن حين تسألني متى تعودين وأين تذهبين.
'' لقد كبرت، وما عاد من حق أحد سؤالي''
أعود لنداءاتها، أصطنع الخروج فتتنبه: أين أنت ذاهبة؟ يغمرني فرح وأجيب: لا يهم، لن أخرج. سأبقى عند قدميك.


نادين البدير

كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=119858

* و منشوره ايضًا في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10021