الجمعة، 27 مارس 2009

كلنا رسل للقانون


إذا كان غسيل الأدمغة قد دفع للاعتقاد بأن سيادة القانون أمر مخالف للعقيدة.
وإذا كان ذات الغسيل قد دعا للإيمان بأن مؤسسات المجتمع المدني هي عمل شيطاني.
وإذا كانت السلطوية قد جمدت عمل التجمعات المدنية ومنعت الاتحادات والنقابات وكل تحرك حقوقي من مزاولة النشاط في بعض الدول.. في حين سمحت الحيلة السياسية بنشوء تلك التجمعات في دول أخرى لكنها أبقتها في حيز دائرة (مع وقف التنفيذ)..
وإذا كانت الجريمة قد انتشرت في بلد ما وأصبحت كالخبز اليومي، والمجرمون نجوا من الاتهام وصار لهم شأن مهم، يحترمهم السياسي قبل المواطن العادي..
فهل من أمل بتحقيق حلم سيادة القانون؟
نعم وأمل كبير..
هذا ما تحكيه قصص أبطال حاربوا الجريمة والفساد.. لم يصمتوا بل صمدوا أمام المجرمين وسارقي أمن المجتمعات.
المؤلف الإيطالي روبرتو سفيانو نشر روايته (غومورا) عن مدينته التي يحبها نابولي والتي شوهتها مافيا كامورا وتفشت بها حد الجنون. لشجاعته أصدرت المافيا بحقه حكم القتل، لذا يسير اليوم برفقة مجموعة من الحراس، لكنه لم يخشَ من فعلته الوطنية، فدماء حب أرضه تمنعه من التوقف عن المطالبة بالعدالة.
روى روبرتو في كتابه عن شاب يكشف جرائم وحقائق تنشر لأول مرة عن مافيا كامورا التي توطنت في كاسال بنابولي وأخذت تعيث بها قتلا وتدميراً وتجارة محرمة دون رادع أو اللجوء لقانون عادل.
ولولا إيمان روبرتو بأهمية القانون ما ألف روايته المميتة.
الطاقة التي كتب بها روبرتو روايته لا بد وأن انتقلت لي أو لغيري، ما قام به ليس عملا محليا خاصا بمحبوبته نابولي، بل هو عمل عالمي يدفع عشرات الآلاف غيره من محبي أوطانهم إلى الاحتذاء به.
إنها ثقافة الوطنية تنتقل بين أفراد الشعوب المختلفة.. ثقافة المطالبة بحكم القانون.
ذلك تحديدا هو عنوان المنتدى الذي انضممت إليه قبل عامين وأصبحت عضوة به.. منتدى ثقافة القانون..
ومفهوم ثقافة القانون بحسب تعبير روي جدسن (البروفيسور في جامعة جورج تاون ومؤسس مشروع ثقافة احترام القانون) '' ثقافة تقتنع فيها الأكثرية بأن حكم القانون يتيح أفضل فرصة على المدى البعيد لضمان الحقوق، كما تقتنع بأن حكم القانون قابل للتحقيق وهي ملتزمة بالدفاع عنه...''.
''في ثقافة احترام القانون تؤمن الغالبية بأن الامتثال لحكم القانون أفضل سبيل لخدمة المصلحة العامة والمصلحة الشخصية كما لحمل الحكومة نفسها على اتباع حكم القانون..''.
هناك فارق بين حكم القانون والحكم بالقانون حيث يسنّ أصحاب النفوذ أو النخبة القوانين ويسيطرون بها على الضعفاء.
أهم ما جاء بمفهوم روي لثقافة القانون هو أن مكوناتها يمكن أن تبنى في جيل واحد فقط، بحيث يقتنع المواطنون، الذين يتخذون من القانون مثلا أعلى، أن باستطاعة مجتمعهم الانتقال لحكم القانون لكن يتعيّن عليهم وعائلاتهم وأصدقائهم تأدية دور ناشط في تعزيز ثقافة احترام القانون المطبقة والإبقاء عليها.
أهم الأسئلة التي يطرحها روي: من المسؤول؟
يقول إن الجميع يضع المسؤولية على الدولة أو الاقتصاد أو غيرهما ولا أحد يتهم نفسه.. لا أحد يحرك ساكناً، فكل فرد بانتظار أن تأتيه العدالة من المجهول..
كل أفراد المجتمع هم مسؤولين برأيه، لا الدولة ولا الاقتصاد فقط.
منتدى ثقافة القانون لا يضم قانونيين بل أفراد من مختلف المواقع. إعلاميون، منتجون، مخرجون، أساتذة جامعات، ممثلون سينما.. كل له مشروعه التوعوي الخاص، وقد يضم مستقبلا طلاب جامعات ومدارس أيضاً..
ونتطلع لتوسعة المنتدى عبر مشاركة المزيد من الأفراد وتلقي المزيد من الأفكار. الجميع يجب أن يشارك في الرسالة السامية الجديدة.
ما يهدف إليه هذا المنتدى العالمي هو نشر الإيمان بين الأفراد بأهمية القانون، وهو أصعب من مطالبة الدولة باستحداث قانون..
أن تعيد صياغة قيم الأفراد أمر به تعقيد، فكيف يؤمن المجتمع الذي يعتريه الفساد ويصمت، المجتمع الخائف من لحظة الوفاة، أن باستطاعته وحده إنهاء الجريمة؟
ويزداد الأمر تعقيدا إذا وصلنا لدول تحرم مؤسساتها الدينية العمل المدني وتتهم القانون المدني بصفته قانون كفر وبغاء.. كيف يؤمن أفراد تلك المجتمعات بأن السيادة للقانون لا لنزوات مفسري النصوص؟
كيف ننشر ثقافة احترام القانون في بلد ليس به قانون، يحتكم الجميع إلى علماء مختلفين فيما بينهم حد النخاع وتتغير أقوالهم المقدسة مع تغير أحوالهم وأوقاتهم؟
هل نطلب سن دساتير أولاً؟ أم نبدأ بتوعية الأفراد بالجريمة التي حدثت بحقهم.
الجريمة التي هي أقسى من جرائم نابولي.
في نابولي يعاني المجتمع ويعلم أنه يعاني.. أما في هذه الحالة، التي يسود بها حكم (البلطجة) وقطاع الطرق بشكلهم العصري الجديد، فيعاني الشعب ولا يعلم أنه يعاني.. مجرد توعيته بمشكلاته ستلقى هجوما من الشعب ذاته الذي خضع لأكبر علمية غسيل مخ جعلته يرى الظلم عدالة.
أجريت حوارا في برنامجي حول مؤسسات المجتمع المدني في إحدى الدول الخليجية. وجاءتني الردود..
يقولون إن مؤسسات المجتمع المدني شيطانية، التسمية البديلة: مؤسسات المجتمع الديني.
يقولون إن نقابات المهن المختلفة كفر..
مفهوم القانون بنظرهم هو الابتعاد عن الدين وحكم البشر بدلاً عن حكم الله.
فهل نضيع الوقت بحثاً عمّن شكل هذه العقلية لنلقي اللوم عليه؟ في الوقت الذي يصر روي على أننا مسؤولون جميعنا..
كنت دخلت بالأمس جدلاً مع صديق يؤكد بأنه لن يتغير شيء طالما أن الأنظمة (المسؤولة) رافضة للتغيير. قال إن جرة قلم من أي نظام بإمكانه تعليق العدالة أو الدفع بها. ''فلم تضيعين حياتك وأنت تكتبين عن العدالة؟ عن شيء لن تملكي القوة يوماً لتغييره..''.
صديقي هذا لم يحضر منتدى ثقافة القانون الذي بدأناه في إيطاليا وانتقل لأبوظبي ثم البحر الميت، واليوم أكتب هذه السطور خلال الاستراحة بين جلساته في العاصمة بيروت..
صديقي لم يتذوق حلاوة الاستماع لقصص أبطال عالميين ولم تدمع عيناه أمام مشهد أعينهم تفيض بالدموع وهم يتذكرون إصرارهم ونجاحهم في مواجهة العنف باللاعنف.. واللامدنية بالشرعية والهوية.
كل قصة رويت من أحدهم كانت دليلا كافياً على أن كل فرد هو المسؤول.
كلنا رسل للقانون.
إذا قال فرد واحد منا: لا.. فسيتبعه الملايين وستسقط أجهزة فاسدة بأكملها..
في بيروت قرأت أمام الحاضرين البيان التأسيسي للمنتدى، شعرت أني أعلن عن قيام دولة.
رغم أن المجموعة أمامي كانت صغيرة لكني شعرت أني أعلن عن تأسيس أهم حدث تعيشه الشعوب.. ثقافة احترام القانون.
.


نادين البدير

كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/alrai/Article.aspx?id=121492

* و منشوره ايضًا في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10095


الجمعة، 20 مارس 2009

كـــــل ســـنة وأنــــتِ مـــامـــا


تذكرين أمي من علمني أن أنام تحت السماء؟
قلتِ لي إن النائم تحتها بإمكانه الإبصار، باستطاعة عينيه المغمضتين رؤية القمر وتأمل النجوم.
وتذكرين كيف علمتني أن أكره العتمة؟ أن أبقي الستائر والنوافذ مفتوحة، لأحكي مع الأفلاك وكل الكائنات؟
أنا لم أخش رواح النهار يوماً مثل بقية الأطفال.
أحببت الليل مثلك، رأيتك تعبرينه وتثبتين أن لليل ضوءا، ضوء لا ينضب اسمه أمي.
وأحببت الفجر.
صار الفجر ملكي منذ أيقظتني لأعيشه وأنا في السادسة إلى أن تخرجت.
وحين يطلع النهار، وتجتمع الأمهات والأبناء، ليست دروس أمي كوصايا الأمهات، لم ترد أن تهب البشرية إرثا جديدا من الحريم.
فلا ضيعت الوقت معنا بتجميل مهنة النخاسين، ولا أبهرتنا بحكايات الأمير والجارية الحسناء الحزينة.
(إياكِ والخوف) كان أول دروسها: نحن النساء لا يضيعنا سوى الخوف..إن أظهرت ضعفكِ قضى عليك.
أول درس كان الأهم. الخوف من المجهول الذي يسيطر على ملايين العربيات لم يعرف طريقه لنا لأنك أبعدت شبحه عنا، ربطت انتفاءه بالكرامة والشجاعة.
سردت لنا أمي قصصا عن رجال ونساء من الزمن البعيد والقريب كيف أن شجاعتهن أدامت بقاءهن، قصصت لنا بطولات شعوب الأرض التي لم تخف، التي نجت لأنها لم تخش قط.
في كل مرة أضع عيني في الأرض أتذكر أوامرها بأن عين الأنثى حارسها، والحارس لا ينم ولا تجفل عينيه. كذلك عينيها متيقظتين متوثبتين دائماً، عينا الأنثى الحقيقية، تقول أمي، تخيفان الأشرار الذين يبحثون عن صيد ثمين. يعرفونه في عينين خائفتين خجلتين معلقتين بالتراب.
لم يكن يربكني أكثر من صوتها وهي تلاحقني في كل الأوقات قائلة: ارفعي صوتك، الصوت المنخفض صوت كسير فيه إيحاء لدعوات غير حميدة وأنت في مجتمع تفسيراته ليست حميدة في معظمها.
درس النقد كان أصعب الدروس.
عدت يوماً إلى البيت لأقص بانبهار نبأ يتداوله الجميع. فاجأتني ردة فعلها كالعادة، رأي مغاير لما اتفق عليه كل من صادفته. لديها رأي خاص في كل مناسبة، لم يحدث قط أن انساقت وراء رأي المجموع، فقط لأن الغالبية اتفقت عليه.
كنت لا أفهم كيف أنك الوحيدة في محيطي العائلي التي تمتلك رأياً فردياً. وصرت أنا ممن ينادون بالآراء الفردية. ليس أخطر من التفكير بصوت المجموع.
من مكتبتك تعلمت أقرأ. تاريخ فرنسا وروايات همنغواي وألمع أسماء العربيات، منها تعلمت أن أكتب. لن يخطر ببال أحد أن أرففها الثقيلة المليئة بالدين والعلوم ملك لربة بيت تطبخ وتعتني بصغارها وصغيراتها. كما لم أنفق في صباي الكثير على الكتب والروايات، كانت جاهزة وأمامي دوماً. وحين كنا ولازلنا نلتف حولها في ساعات العصر لتسرد لنا قصص استقلال شعوب العالم بطريقتها الأنثوية القوية، يخيل إلينا لبرهة أنها كانت تعيش تلك الأزمنة.
من مكتبتك اصطدت (أنا حرة) وأخذت أتبع نهج عنوانها المثير.
أفكر عادة بما كان سيحدث لو لم أتطفل على كتبك وأقرأ ما تقرئين. لو أني كنت بنتاً مطيعة للطفولة واكتفيت بماجد ولولو.
وأتساءل أني حين كنت أنشد الحرية، هل كنت أتحرر منك أم لأجلك؟
خشيت أن أتحول لحياة العطاء اللامحدود. عطاؤك الذي ليس له شبيه.
إنسانة واحدة لا تعرف أن تأخذ أبداً، لم يحدث ورأيتها تأخذ. هي أمي.
وتعلمين أني في بعض الأحيان كرهت الأمومة منك؟ جعلتني تضحياتك الجليلة أربط الأمومة بالفناء.
أنجبتنا وتخلت عن كل شيء، حتى عن الحلم. كان خيار أبي إما طموحها وإما نحن فاختارتنا. تركت العمل والحرية وتخلت عن الاستقلالية، اكتفت بأن تحكي عنها فقط.
كثيرا ما جرفتني الأفكار فظننتها قد ندمت على حياتها الأولى، وأنها تنتظر سفرنا أو زواجنا لتهدأ وترتاح من صخبنا.
لكنهما حين جلسا (وحيدين) على طاولة طعامنا التي أصبحت شبه صامتة بعد أن باعدتنا الحياة قليلاً عن حضن أمي.. أسمعها اليوم تقول لأبي: تلك سعادتي، كانت وأنا أراقب شجارات أطفالي وضحكاتهم على مائدة الغداء، تلك تريد الجلوس بقربي وآخر بقربك، كانت أذناي تطربان لسماع ذلك النزاع الطفولي الذي أرهقك.
لم أعلم قبلها أن أمي كانت سعيدة بشجارنا وضحكاتنا المرتفعة، حسبت أننا كنا نؤرق صحوتها ومنامها ونذكرها بماض سرقناه منها، لم تفصح يوماً عما يمكنه أن يسعد قلب الأم.
الأم التي لم تفرق مطلقاً بين تربية ولد وبنت..
أمي التي دفعتنا دفعاً ليكون لنا أحلام.. قالت إن العمل والسفر يكونان الإنسان.
ماما التي لا أذكر أنها عانقتنا بأيديها يوماً، لكنها حتى اللحظة تحيط أرواحنا أينما ذهبنا بهالتها الحنونة.
وأنا صبية..
كم كرهت شعري المعقود. وكم حقدت على ضفائري. كنت أحلم أن أنثر شعري في الهواء دون وثاق. حلمت أن أفك عنه الشرائط والألوان، أقسمت أني سأحله يوماً وسأفك كل رباط.
وبعدما حطمت حائط الممنوعات، وبعد لهاثي وراء موجة الأحلام.
اشتقت وأشتاق لضفيرة تجدلها أمي. بل ضفيرتان ترميهما على كتفي.
وحنيني مرير لمشط قديم كانت تؤلمني أسنانه.. لو أني تركتها لتغرس برأسي كيفما تشاء.
وأنا صبية..
كنت أجن حين تسألني متى تعودين وأين تذهبين.
'' لقد كبرت، وما عاد من حق أحد سؤالي''
أعود لنداءاتها، أصطنع الخروج فتتنبه: أين أنت ذاهبة؟ يغمرني فرح وأجيب: لا يهم، لن أخرج. سأبقى عند قدميك.


نادين البدير

كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=119858

* و منشوره ايضًا في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10021

الجمعة، 13 مارس 2009

في معرض الحرام...


نكتة حقيقية جرت أحداثها في معرض الكتاب الأخير بالرياض.. حيث شاركت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعرض ممثلة عبر مكتبها وجناحها الذي تعرض من خلاله منجزاتها الاجتماعية.. جناح الهيئة كان الجناح الوحيد بالمعرض الذي لا يعرض كتباً، ويتميز عن بقية الأجنحة بعرض زجاجات مشروبات روحية وملابس نسائية وطلاسم سحرية تم ضبطها. يقول المسؤول عن الجناح انه لا يوجد لديهم ما يبيعونه وتقتصر معروضاتهم على المنكرات التي يضبطونها في جولاتهم..كما قامت الهيئة بتحويل عشرين إلى ثلاثين كتابا يومياً إلى إدارة المطبوعات للفحص..
نجاح الهيئة لا يشاطرها به أحد. الهيئة التي تنبذها الملايين تمكنت من الوصول إلى محفل العلماء بل ومزاحمتهم في الأجنحة والأركان..
في معرض المنكرات، كان من المناسب أن تشارك الهيئة فتعرض الفسق والمنكر مثلها مثل بقية المؤلفين والأدباء. معرض الكتاب صار معرضاً للحرام.
في جناح الهيئة عرضت الطلاسم السحرية بدلا عن الكتاب...
الرسالة تقول: المفكر زنديق كالساحر.
لسان حال الهيئة يقول للجميع: الآخرون لا يبيعون كتباً بل فسقا.
عرضت الموبقات في محفل للثقافات والإبداعات.
ليس الهدف إعلان عن حرام قدر ما هو سباق لتحويل السطحي إلى محور للفكر العام بدلا عن دوران الفكر حول رأي لهرطقي أو قول لزنديق. تماما مثلما تحول قياس اللحية والثوب لوهم ثقافي.
*
لكن ما حدث في معرض الكتاب بالرياض ليس حالة خاصة بفكر منتشر في السعودية. إنها حكاية المعرفة عند العرب، وقصتهم مع المطالعة.
صحيح أن ولا معرض كتاب عربي يصيبه الذي يصيب معرض الرياض فيشوهه ويضيع حلاوة الاحتفالية السنوية بالعلم. إلا أن الفكرة العربية واحدة في مختلف ومعظم الأماكن: لا تقرأ.
مثلما اقتيد المثقفون إلى المحارق ليشتعلوا أحياء زمن محاكم التفتيش، يقتادون الآن إلى مقصلة التكفير، تشوه سمعتهم، ينفون للخارج، يتعرضون للذل حالهم حال المجرمين وسافكي الدماء. وسفك دم الجهل جريمة ليس لها صك غفران.
ما يحدث في المنطقة العربية وتحديدا في الأماكن التي يقتات بها المتطرفون، نسخة جديدة من عهد الانحطاط الأوروبي. لكن قرون الظلمات الأوروبية انتهت منذ مئات السنين، فكم سيتطلب الوقت في المنطقة العربية للخروج من العتمة التي تخيم عليها. وهل هناك أمل بعصر نهضة عربي؟
معرض الكتاب الحقيقي كتبه لا رقيب عليها، ولا تلوثه لائحة سوداء لمحظور أو ممنوع.
هذا المعرض الحلم يعجل من فرص النهضة، زيارته لأي مدينة أو عاصمة تهدد من يعتمد مبدأ التعتيم نهجاً، ليس غريبا إذاً أن تعد له العدة مسبقاً.
يتجول الجاهل في معرض الكتاب لتقييم المعلومة وتحديد مقدار الجرعات الثقافية الموجهة للأفراد وفحواها أيضاً!
سخروا من المثقفين في عقر دار الثقافة، أرادوا أن يثبتوا للجميع سلطتهم التي تفوق الفكر، وأثبتوها.. بعثروا المتجمعين، منعوا الاختلاط (رغم أن قضيتهم لا تمت للاختلاط بصلة) أهانوا الكتاب، ساقوا المفكرين للتحقيق.. تعدوا على كاتبة وحرموا قراءها من توقيعها.. فعلوا كل ما يحلو لهم.
ولم يعاقبوا، انتقدوا صحافياً فقط.
لم يعاقبوا لأنهم لم يكونوا يعبثون في السنوات الثلاثين الأخيرة، عملوا جاهدين حتى تمكنوا من توسعة دائرة مناهضي المعرفة، امتدت الدائرة لتشمل الشعوب. ما عاد المسؤول يلاقي صعوبة في منع الناس عن القراءة، صار قرار الحظر يصدر من الأفراد أنفسهم. حتى وإن دفعهم الفضول للقراءة فإن حكم التكفير جاهز ضمنياً وقبل البدء بالصفحة الأولى.
أذكر معرض الكتاب في المدرسة. دخلت بعض الطالبات وصرن ينصحننا بصوت مرتفع: ابتعدوا عن لهو الكتاب يا بنات، واشترين كتب الدين فهي ما سينفعكم في الآخرة. ولهو الكتاب بنظرهن كانت روايات الأدب العالمي المترجمة والألغاز وقصص أغاثا كريستي البوليسية وأخرى عاطفية.
فهمنا، قرأت اليوم دينا، وغدا دينا وبعد غد دينا والذي بعده، ثم ماذا في غرف الانتظار (العربية) بالصالونات وعيادات الأطباء، يندر أن تصادف الكتاب، وإن حدث وأخرجه أحدهم فكتاب أذكار وأدعية.
أما سائق التاكسي (بالعالم المتحضر) فيمسك كتابا بانتظار راكب، وبائع الساندوتشات يقلب الصفحات بشغف بدل الثرثرة بانتظار زبون. ومحصل التذاكر وركاب الميترو. الشعب كله يسير وهو يقرأ، يقرأ كل شيء ودون شروط.
تسير القاعدة الشعبية العريضة وهي تقرأ. هكذا تفسر أسس الحضارة. حيث القاعدة تحتل القمة. وحيث الهرم مقلوب.
لكنهم كفرة.

نادين البدير
كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=118260

* و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9947



الجمعة، 6 مارس 2009

تقبيل الأيادي: وهم الترابط العائلي


في لقاء تلفزيوني دار جدل بين الأميركية ناديا سليمان (التي أنجبت ثمانية أطفال لينضموا لإخوتهم الستة الآخرين) وبين والدتها التي تكاد تجن من عدد المواليد المحرج الذين ستصطحبهم ابنتها أينما ذهبت أمام مرأى الجميع في بلد عدد أفراد الأسر به محسوب بعناية.
العدد 14 أذهل الشارع العام الأميركي ونال تغطية إعلامية ضخمة بسبب طريقة الإنجاب دفعة واحدة وهول العدد، وصارت أم الـ14 حديث البرامج والصحف والمجلات.
لعل أصلها الشرقي قد شدها للعائلة الكبيرة، ودفعها لإنتاج كم هائل من الأطفال دون التفكير حتى بكيفية إعالتهم، إذ كان حلم حياتها كما تقول تكوين عائلة كبيرة..
العائلة الكبيرة...
مفهومها يعني أبناء وبنات وعدد كبير من الأحفاد وعدد أكبر من العلاقات المتناقضة فيها الحب والشر والصداقة والغيرة والحسد.
كأنها قرية صغيرة محيطها المنزل الكبير. لا يهم أن يكون أفرادها وحدة واحدة فالمسألة تتعلق بالكم وليس بالكيف ولا بالنوع. ولو أنها تعلقت بالنوعية وبروابط المحبة الخالصة لاقتصر الأمر على ثلاثة أو أربعة أبناء.
ولا يهم أن يمتلك مؤسس العائلة الكبيرة القدرة على التعامل مع كافة الأعمار من أبنائه، فلا شيء يضاهي الشعور بفخر الإنجاب المتواصل وبفحل لا يشيخ.
على حساب مَنْ؟
يعرف أبي شخصاً لديه خمس وأربعون ابنا وابنة. كان يسير في الشارع برفقة أبي حين جاء طفل تاركا رفاقه يلعبون وتوجه نحو رفيق والدي وشرع يقبل يده. مد الرجل يده للطفل وسأله وهو يقبلها: ما ألطفك، ابن من تكون؟ تعجب الطفل ورد منكسراً: أنا ابنك.
سألت أبي: طالما أن الرجل لم يعرف أنه ابنه، لما سمح له بتقبيل يده؟
أجابني: طبعا هذا كل ما شد انتباهك في القصة! أقول لك إن المصيبة أنه لا يعرف أشكال أبنائه.
قلت له أمازحه: وأنت كم حفيد الديك؟ فكر لبرهة قبل أن يجيب: والله يقولون صاروا ستين.
«عدم معرفة أشكال الأحفاد أهون بكثير».
ما شدني بالفعل في القصة هو الطقس الأبوي الذي يمارس محلياً عبر العصور. عادة تقبيل الأيادي.
تقبيل يد الغير بصفة عامة فيه خنوع ومذله وإسقاط للكرامة، تمرد عليها الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز قبل سنوات عدة ومنع تقبيل أيادي المسؤولين بأمر ملكي كخطوة لتخليص النفس الحرة التي تأبى الانحناء لغير الله.
أما عائلياً فعرف عنها أنها عادة حميدة ومحببة، فيها احترام للكبير وشعور بالتقدير نحوه. لكن تلك العادة صارت تشير إلى طقس رسمي والمستفيد طرف دون الآخر..
هي إعادة تعريف يومي للدرجة الأسرية للفرد ورتبته العائلية. تقبل اليد في الصباح فلا يعود بإمكانه الوقوف أمام أبيه وجها لوجه لقول كلمة لا.
كلما اجتمعت العائلة أرقب ردة أفعال الكبار عندما تقبل أياديهم.. كان جدي حين يصافح أمي يقبل جبينها فتفاجئه بمحاولة جديدة لتقبيل يده، ولم تنجح محاولاتها على مر السنين إذ كان يسحبها فوراً. وهي بدورها اليوم تمارس ردة فعل أبيها تجاه ذلك الطقس العربي فلا تسمح لنا بتقبيل يدها حتى لو حاولنا أن نشدها رغماً عنها. وعلى النقيض فإن أول ما تفعله يد أبي عند إقبالنا لتقبيل وجنتيه هو الارتفاع إلى مستوى يشير إلى أن اليد أولاً، وقبل الخدين.
بعض الآباء تجاوزوا تلك النشوة الظاهرية إلى ما هو أهم، إلى أبنائهم، وبعضهم غرق بحلاوة الفوقية.
كيف هي العلاقة بين أب وعشرين أو ثلاثين ابنا وابنة؟ وكيف يمكن لأم 14 أو 12 أن تعي متطلبات الجميع.
الرابط بين الأب وأفراد العائلة الكبيرة يفتقد للعمق أحياناً وينحسر إلى قبلة على يد، خالية من أي واجبات أو مسؤوليات أبوية.. والبقية الباقية من الواجبات والعواطف والصداقات مع الأبناء تحملها أكتاف الأم وحدها.
دائما نعجب منها. مقدرة أمي على معرفة احتياجات كل من في البيت مذهلة. وفن إنصاتها لابنائها لا مثيل له. لكن ذلك كله يستنزف من عافيتها ومن عمرها. وهي تصر على أن ذلك الاستنزاف مصدر لسعادتها. العائلة الكبيرة تستنزف النساء الأمهات. ففي العمر الذي ينبغي عليها الالتفات لنفسها والتمتع بالدنيا.. يكون جيل جديد من أبنائها قد دخل سن المراهقة وعليها الالتزام بتهذيبه.
لا أظن أن حلم الأمومة قد خلق مع جميع النساء، بل نحن صنعناه. وأبقينا حياتها رهنا بإمكانية تحقيقه على أكمل وجه.
في صغري كانت أمي كلما حبلت أمازحها قائلة: هناك ارتفاع مطرد في السكان وأنت تساهمين بتقليص الوقت الذي يفصلنا عن الانفجار السكاني.
ترد بعصبية: اسكتي بس، كل وحدة تتمنى يكون عندها اخوات.
- فهمنا اخوات، مو عشيرة كاملة في بيت واحد..
الآن أخبرها أن أجمل شيء فعلته لأجلي هو إنجابها لشقيقاتي وهن صديقاتي الوحيدات. هذا جانب العائلة الكبيرة المشرق.
الجانب المظلم يعرفه الجميع، ليس أسوأ من إخوة بالدم وعلى الورق فقط، دون أدنى شعور عاطفي تجاه بعضهم البعض.
لذا فتنظيم الأسرة يعني جرعة قليلة لكن مركزة جدا من الأبناء المترابطين. تنظيم الأسرة يعني التزام باحتواء الابن إلى أن يكبر بدلا عن رميه بيد الأقدار وانشغال الأب بتكوين مزيد من الأجنة فيما يقف الابن منتظرا دوره في الصف الطويل للانحناء وإلقاء القبلة الرسمية.
ليس أفضل من تحديد النسل كوسيلة لأسرة مثالية وكاملة.
حين توصلوا لتنظيم الأسرة عربياً تغاضوا عن مسألة مهمة وهي: من يحق له أن يكون أبا ومن لها حق الأمومة.. على عكس الغرب الجميع هنا بلا استثناء يمتلك هذا الحق.. أما هناك فيسحب الحق بأمر من السلطات إن لم يمارسه الأبوان على أكمل وجه ملتزمين إزاء الأبناء بحياة كريمة خالية من جميع ألوان العنف حتى النفسي.
رضا الأب مسألة روحية وليست مجتمعية فقط، لكن ماذا عن رضا الابن. وواجبات الأب تجاه ابنه أو ابنته.. أليس من أنجبهم مسؤولا عن رعايتهم معنويا لا مادياً فقط؟
أليست مسألة واجب وضمير أن يعمل على التقريب بين أبنائه وعدم الاكتفاء بتقريبهم من كفه فقط؟


نادين البدير
كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=116622

* و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9868