الجمعة، 29 أغسطس 2008

بل اهلًا شمس رمضان

غداً أو بعد غد رمضان. كل شيء يسير مثل كل سنة أو يزيد..غدا أو بعده تبدأ حملات الغذاء وولائم الطعام... تبدأ حملات الإعلانات التجارية الثمينة والرخيصة... تبدأ مسلسلات وحلقات عن قصص لا نهاية لعددها... أصوات المآذن ستعلو، وستحتفل المساجد بزائريها... مقاعد المقاهي والمطاعم تمتلئ بروادها الذين يقصدونها لتمضية الليالي الرمضانية... ستتزين الشوارع بالألوان والأنوار وتتخذ المصابيح أشكال النجوم والأهلة، ازدحام في كل مكان...كل شيء يسير مثل كل سنة أو يزيد، وحده ذاك الشيء يقال انه يختفي كل سنة أو يقل بالتدريج... روح رمضان.هناك منغصات يقولون انها تشوش بال من ينشد الروحانية الرمضانية، الكبار أكثر من يردد هذا القول. رغم أن تلك المنغصات أصبحت جزءا لا يتجزأ من زائرنا السنوي... الكبار يترحمون على رمضان مضى. ويحزنون على روحه التي قتلت. كتب معالي الدكتور غازي القصيبي قبل أيام عدة في صحيفة الوطن مقالا بعنوان (رمضان وداعاً) ودع به بهاء رمضان الماضي...الكبار دائما يترحمون على القديم، يستمرون في الحياة هناك، لا يعجبهم الحال مطلقاً. «في زماننا، في أيامنا، يرحم رمضان أول...»حسرة ممتدة من العبارات على أيام كانوا هم فيها أناس آخرون، دون أن يكون للأمر علاقة بطقوس رمضان أو شعبان. يقول الكاتب: وداعا رمضان. هكذا قرر. أن ينتهي رمضان من الوجود مع انتهاء سعادته به. رمضان اليوم ليس رمضان قبل ثلاثين عاما، تعلقت الروحانية اليوم وارتبطت بروائح الأطعمة في الشوارع والبيوت.. بحلويات ومسلسلات وأصوات مساجد تصدح بأعلى حس، مختلطة وغير مفهومة... لكن تلك الأصوات العالية والروائح المختلطة بالنسبة لأجيال عديدة هي روح رمضان الحقيقية، أجيال لم تحى زمن رمضان الطفرة أو رمضان القحط، أو رمضان خال من وسائل الترفيه المرئية، أجيال لم تصنع دماها بأيديها، عرفت رمضان على أنه صلاة يليها مسلسل وفزورة...ولأن لكل جيل روحانيته، فليمارسها كيفما يشاء دون أن يوقع اللوم على التلفاز والأطعمة وحسناوات الشاشات، أو اللوم على الأجيال الجديدة التي كانت سبباً في تشويه رمضانه القديم وتحويله إلى كتلة من السلبيات...ثم من بإمكانه فرز السلبيات والإيجابيات الرمضانية.. هم يأكلون كما لو أنهم صاموا العام وغربت شمسه في رمضان فأفطروا.يشترون ملابس العيد كأنهم أمضوا العام عراة.يركعون ويسجدون كأنهم ما صلوا طيلة أحد عشر شهراً...يرقدون فنياً ليستيقظ إنتاج غزير بالمئات...ومع ذلك من بإمكانه القول ان تلك الشراهة سلبية، أليست جزءا من طقوس اعتدناها ولا نستطيع مقاومتها؟ لنعترف ونتأقلم مع اعتيادنا الداخلي عليها وكفانا نقداً لطقوسنا أو لشراهتنا...بالنسبة لي أكياس الدهن والشحم التي تملأ البرادات هي السلبية الكبرى، وتلك المتفجرات الحلوة الصغيرة التي أحاول أن أكتفي بالتلذذ بمشاهدتها سلبية لا تغتفر... ورغم ذلك أتوق شوقاً لسماع أمي تفكر بصوت عال بأصناف مائدة الإفطار... أتوق شوقاً لرؤية العجين، حتى رائحة القلي التي أكرهها يصبح لها شكل محبب في رمضان... السهر المجنون له مزاج آخر في رمضان، الشراهة لها معنى آخر. وحين يبدأ القمر بالمغيب أستمع لأعذب آذان ببدء فجر في الحياة.وفي ليلة رمضانية أتحرق شوقا لاجتماع عائلتنا بعد الإفطار والتفافنا حول الشاشة لمتابعة مسلسل من مئات المسلسلات. تنتقده الصحافة كونه عديم الفائدة والقصة، لا يدرون حبكته الأصلية. التفافنا حوله، هذه الساعة العائلية التي تلي الإفطار هي الأغلى بين ساعات العام كله... ننتظرها عاما كاملا... رمضان ليس طقسا دينياً فحسب، هو عيد بل أكثر.هل نملك بعد ذلك القدرة على وداعه، أم نهلل ونقول: بل أهلاً شمس رمضان.

نادين البدير
كاتبه وإعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://216.157.9.137/AlRai/Article.aspx?id=75768

* و كذلك منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=7924

الجمعة، 22 أغسطس 2008

خليجيه في بكين

انتقاد محافظ حاد وجه قبل فترة نحو بعض الشاشات الخليجية التي سمحت بعرض متباريات الأولمبياد بأوضاعهن غير المحافظة وملابسهن الكاشفة. أما الأوضاع الخارجة المقصودة فهي المباريات الأولمبية المعتادة، وعن الملابس الكاشفة فهي ملابس الرياضة التي تسهل حركة اللاعبة وتتماشى مع ما تزاوله من ألعاب.ساحة الأولمبياد التي لم تلعب على مدى التاريخ دورا في مسرحية الإثارة أو استعراض الأجساد، ولم تسمح بأن يشتهي رجل لاعبة على أرضها، يريد البعض تحويلها في أذهاننا إلى مسرح نخاسة رخيص... الأولمبياد دخل مجال العيب والحرام.الأهم من يفوز في النهاية؟ أخلاقيات الرياضة الراقية أم فكر داخلي صغير؟في بعض الأحيان تسير الموجة العالمية بتسارع أقوى من مجرد تيار فكري، أقوى من محاولة إقناع متشدد بتطوير أفكاره عن الحريات... موجة الرياضة تتخطى كل الحدود، وتتعدى كل المعوقات.اليوم وفي الوقت الذي يستهجن به الكثيرون من متشددي الخليج أمر تحريك النساء للعضلات. يرفضون بكل ما أوتوا من براهين دينية وبيولوجية، تمسك ميثاء بنت محمد بن راشد بعلم بلادها في الأولمبياد وتتقدم الوفد الإماراتي في حفل الافتتاح، مشت تتقدمهم بطولها الفارع. بعباءتها وشيلتها. مبتسمة بهدوء وخجل للكاميرا. عباءتها وابتسامتها تلتفان حول بطلة كراتيه أثارت دهشة أهل الخليج وإعجابهم أيضاً على مدى سنوات.أما السعودية، فيحتد الجدل فيها حول فكرة مزاولة المرأة للرياضة. عقل المتشدد يطير كلما تخيل السيقان والأذرع النسائية تطير في الهواء، بحركات مريبة قد تمارسها نساؤه يوماً. لا يدعه الليبرالي وشأنه، بل يستفزه بكل مناسبة مطالباً بالرياضة النسائية في محاولة جادة لإثبات صموده كليبرالي...الكفة ترجح حتى اليوم لصالح المعارضين لرياضة النساء. إذ تمنع حصص التربية البدنية في مدارس البنات، وتحاصر أفكار إقامة النوادي الصحية العادية. في خلال كل ذاك الجدل والمنع، اختيرت الفارسة السعودية أروى مطبقاني كأول سعودية ضمن الاتحاد السعودي للفروسية..بالطبع الاتحاد الرياضي لم يستأذن المطاوعة، ولم يحصل على مباركة الليبرالي وتهنئته وإشادته... اختار الفارسة ببساطة. الموجة العالمية أقوى من جدل يسير داخلي. الموجة العالمية ابتلعتنا وتياراتنا الفكرية واختارت الفارسة..الأمير الوليد بن طلال لا يمكنه تفويت فرص التحضر. الأب الروحي للمرأة السعودية، شكل منتخبا نسائيا وقدم لبلاده عدة فارسات سعوديات. قرأت ذات مرة أنه لم يكن مسموحاً للمرأة في بريطانيا امتطاء الجياد حسبما يمتطيها الرجل، كانت تجلس على جنبها وتسدل ساقيها على احد جانبي الخيل، دون أن تتجرأ الأفخاذ على اتخاذ وضعية الزاوية المنفرجة... فذاك مناف للحشمة والأنوثة. وحده الرجل كان قادرا على التحكم بالخيل وحيداً وبواسطة فخذيه. وحين سمح أحد الآباء لابنته بقيادة الخيل للمرة الاولى بطريقة مشينة كما الرجل، صارت فضيحة وتحولت الابنة لمضغة تلوكها الألسن بالاشاعات والإساءات.اليوم ، تمتطي الخيول نساء ينتمين لأكثر الدول تشددا على الصعيد الداخلي، ويعني ذلك أن الموجة العالمية تبتلعنا بنهم، ولا تدع لنا مجالاً للتفكير. كل شيء تغير. اختلاف العصور والأزمان يفرض اختلاف المفاهيم... ما كان منافياً للأنوثة بالأمس اليوم أصبح عاديا بل أكثر من عادي... والذي كان رمزا لذكورة طاغية تثير غرائز النساء أصبح مطلباً رئيسياً لجسد لاعبة...الفوارق الحادة بين الجنسين تذوب. أليست الحدود بين الثقافات تذوب؟ أليس سلام أن تذوب الحدود بين الأديان؟غطت الأنثى عضلة بارزة في ذراعها وأحكمت الغطاء، تمادت في إبراز تكوينها الضعيف لإثارة مفتول البنية، تغير كل شيء. رقيقة البنية الماضية تحبس أنفاسك وهي تستعرض عضلاتها المفتولة وتمارس رفع الأثقال في الأولمبياد. أثقال قد لا يتمكن الرجال من حملها، ترمي القرص والرمح وتشارك برماية القوس والنشاب، تطير فوق الحواجز، تتشقلب بين طيات الهواء قبل أن تلقفها المياه وتغوص .. ما عادت قوة الأنوثة في ذكائها وحنكتها فقط. فقد اجتمعت الأنوثة والبنية القوية أيضاً. أجساد اللاعبات في عصرنا تشكك بصحة الأسطورة القديمة وتؤكد قدرة المقاتلات الأمازونيات القديمات وتدفع عنهن صفة نبذ الأنوثة... قال صاحب الأسطورة الذي لم يصدق أن المرأة يمكنها رمي الرمح بأن الأمازونية لجأت لكي صدر طفلتها ليضمر أحد الثديين فلا يعيقها عن استخدام القوس والسهم عليه.. هل يمكن في المقابل أن تجتمع الذكورة والرقة، ولو كانت تصب في خانة المشاعر؟رشيق الجسد نحيله، يتباهى بإظهار أعضاء الذكورة بملابس الرقص الضيقة... ساقه تتلوى وتلتف حول البالرينا التي يراقصها... استعراض مشاعري يأسر القلوب والخيال. ليس بحاجة لأن يتبختر بخشونته أمامها، لا يفعل أكثر من ملامسة تفاصيل جسدها. يعزف عليه بأنامله العذبة سمفونية مكملة لتلك التي يرقص عليها... هل يعد ذلك الذكر رجلاً؟ أم أن مقومات رجولته ضعفت بارتدائه تلك الملابس اللصيقة؟رقص الباليه كالرياضة ممارسة تفهمنا أن قوة الذكورة لا ترتكز على عضلة، أن الرقة والعاطفة يمكنهما الاجتماع سويا في جسد رجل.الموجة العالمية تلتهم مفهوم الأنوثة والذكورة المعتاد شيئا فشيئاً... تغير تعاريف الضعف والقوة. ويوما ما ستختار تلك الموجة لاعبات جمباز خليجيات وبطلات سباحة من الجزيرة العربية، ستتسابق فتيات الجزيرة في مسابح الأولمبياد. سيثبتن انتماءهن للبحار وسلالات الغواصين.

نادين البدير

كاتبه و إعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-

http://www.alraimedia.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=64994



الجمعة، 15 أغسطس 2008

متى يحاكم الوطن ؟


ردود مختلفة توالت حتى اللحظة تعقيباً على مقالي الأخير (البدون مواطنون بلا وطن):«نحن لدينا هوية وطنية وإن لم نحمل الجنسية»«ولاؤنا وانتماؤنا للبلد الذي عشنا وتربينا فيه، ننتظر منه أن يعترف بنا وبوجودنا» «ليس لي الحق في التعليم أو العمل أو الزواج أو السفر أو إصدار شهادة وفاة، أنا بدون بكل ما تحمله الكلمة من معنى».«أعيش في لندن وأعمل بمهنة التدريس في واحدة من جامعاتها، كنت بدوناً وأصبحت بريطاني الجنسية».«أنا بدون إذاً أنا غير موجود...»لا أود التركيز الآن على البدون فقط كعنصر من العناصر التي تحيا على أرض البلد أو ما نسميه الوطن. اليوم أبحث عن تعريف الوطن ككل... دفعتني ردود القراء والقارئات لمحاولة التعرف على المعنى العصري للمواطنة.ما درسناه وتعلمناه عن الوطن مرتبط بالحياة والموت والذود بالدماء... الوطن هو شيء ننتحر لأجله. حتى أناشيدنا الوطنية لا تنطوي على نداءات للتنمية الفكرية وآمال بالعدالة الاجتماعية والسياسية، قدر ما تتضمن دعوات لدخول ساحة الأبطال وإثبات الرجولة وإبراز العضلات والتأكيد على حب الأوطان بتقديم الأجساد هبات وأضحيات. لم يرتبط الوطن بمخيلتنا الثقافية وتنشئتنا الدارجة بمكان يشع بالعطاء والدفء. لذا فطبيعي أن تصير مسألة حب الوطن قيمة ثقافية، عادة متوارثة، خدمة إنسانية أو مطلباً رسمياً، لكنها ليست حباً جليلاً إلا فيما ندر. الحب الكامل هو حب متبادل، وفي علاقاتنا كمواطنين بأوطاننا النامية فليست المواطنة متبادلة، هو حب من طرف واحد. طرف المواطن فقط...هل تشعر أوطاننا بمواطنة نحونا؟ هل تشعر أن مجموعاتنا الإنسانية تشكل حدود وطن لها؟ هل تخلص لنا أم يمكن أن يخون الوطن ويتنكر لأبنائه؟وهل ولاؤنا للأوطان شرط لحدوث العكس؟سواء كان الشخص بدوناً أو بهوية أو مقيماً، السؤال المطروح هو متى يعتبر البلد وطناً والإنسان مواطناً كاملاً؟ هل تمنحه الأوراق تلك الصفة العصية؟أكثر الردود التي أتتني من فئات (البدون) تصر على امتلاكها للمواطنة وإن لم يعترف بها الحبر والورق. ما معنى أن يحيا إنسان دون تعليم وعمل وزواج ويحرم من اجتياز الحدود ونقاط العبور ويستمر ذات الإنسان بمحبة المكان والتأكيد على ولاء لا ينتهي لوطن لا يعترف به؟ ما معنى أن يهاجر ويجد بدائل عديدة، ويبقى ولاؤه لوطن لم يمنحه اسمه.العدالة تقول أن هذا الفرد هو الذي يحمل الولاء الكامل. هذا الفرد مواطن من الدرجة الأولى.لكن بعض الأوطان تأخذ الكثير ولا تعطي سوى القليل، تتركك ترحل دون أن تذرف عليك الدموع، وبعضها يجذبك كالسحر. يناديك ليكون وطنك وأنت بالكاد تعرفه منذ بضع سنوات.فأيهما يشكل الوطن...هل الوطن بقعة جغرافية رسم تفاصيل معظم حدودها استعمار قديم؟ قال لنا قبل أن يرحل: هذا وطنك، وذاك وطنك. هل من الوطنية أن يكون ولاؤنا لحدود صنعها استعمار.هل الوطن هو المكان الذي احتضن أسلافي أم المكان الذي يحتضنني أنا؟ومتى يولد الوطن في داخلنا ومن تلده؟البعض عرف المواطنة بأنها تشمل النسب لبقعة جغرافية معينة والشعور بالتعلق بها والانتماء إلى تراثها التاريخي وعاداتها ولغتها. وتعرف أيضاً على أنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة بما يتضمنه من حقوق وواجبات. وتدل المواطنة في القانون الدولي على الجنسية سواء أصلية أم مكتسبة. لكن البعض الآخر يرى أن مقومات الوطن التقليدية اختلفت. ما عادت جغرافيا وعوامل تاريخية مشتركة، إن العولمة بنظرهم تجعل من فكرة الوطن مصالح وتكتلات اقتصادية. ويؤمن الكثيرون بأن الإنسان أصبح مواطنا عالميا غير محدود، مواطنته للإنسانية قبل الجغرافيا واللغة.إذا لفظتنا الأرض التي ننتمي إليها تاريخياً ولغوياً وثقافياً، وحالفنا الحظ فوجدنا أرضاً أخرى استوعبت آمالنا وعالجت آلامنا، أناس آخرون أحبونا أكثر، فرص عمل، فرص علم، فرص حب... فهل تستبدل الأوطان... وهل للمكان الذي ساهم في نهوضنا حق الولاء والإخلاص علينا؟ هل تبقى أرواحنا في وطننا الأصلي وتتحرك أجسادنا فقط؟ أم أن الروح المعاصرة يمكنها أن تتخذ من الأرض كلها وطنا؟ خرج القادرون من البدون إلى انكلترا وفرنسا وغيرها، عاشوا وعملوا في الجامعات وحصلوا على جنسيات أوروبية تحلم بها ملايين عربية. عجزوا عن تحقيق الانتماء الرسمي في وطن متأخر لكنهم تحولوا لأدوار فاعلة في الغرب المتحضر. أيستمر المواطن الأوروبي الجديد باعتبار نفسه بدوناً أو غير موجود... وإذا كان كذلك فهل يرجع السبب لحبه لذلك البلد الخليجي الذي شهد مولده أم لعقدة الرغبة بالاعتراف بوجوده في بيئة شعر أنها تطرده يوماً...في المقابل هل يمكن أن تجتمع الجنسية وجواز السفر مع شعور بعدم الوجود أو الانتماء؟ليس الأمر منحصرا على البدون، فحتى حملة الجنسيات وجوازات السفر الرسمية، حين لا يجدون بيئة خصبة لنمو طموحاتهم داخل مواطنهم الأصلية... يرحلون ويستوطنون بلدانا جديدة... جميعهم يقولون ان الوطن الأصلي يسكنهم، خجلون من إظهار عشق كبير سكن قلوبهم هو عشق وطن جديد بادلهم السلام. لم يبخل. لم يشح. منحهم اسمه ورمزه. واستمع لأحلامهم بآذان صاغية...المواطنة حق وواجب، أهم مقومات الوطن العدالة الاجتماعية. وشعور الفرد أنه من البدون المضطهدة أو من الأقليات أو مواطن من درجة ثانية أو ثالثة، يفقد المكان أهم صفات الوطن.لماذا يهاجر أهل الخليج هجرات جماعية موقتة كل صيف. لماذا يصر العديد من المصريين على أنهم فراعنة وليسوا مصريين؟ لماذا يحلم المغاربي بالهجرة إلى فرنسا؟لماذا يدعنا الوطن نرحل؟
نادين البدير
كاتبه و إعلاميه عربيه سعوديه
* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-

الجمعة، 8 أغسطس 2008

«البدون» مواطنون بلا وطن


أن تكون منبوذا. فردا من القاع، مجهولا ومحروما من حياة الرفاهية بدول المجلس. تنتمي لجماعات انتهكت حقوقها إنسانياً، ولم يحدد عددها بدقة. لا تتعلم وقد تحرم من العمل ومن الزواج ومن الرعاية الصحية.أن تكون بدوناً.مستقرا بأرض لا تنتمي إليها، ولعلك تشعر بشيء كبير من الولاء لكنك تعلم أنه ليس ولاء متبادلا، فقد تلفظك الأرض التي نشأت عليها مع أول قرار بالطرد.بشع ذلك الشعور الذي وصلني، أرق تلقيته من قارئ سعودي ليس من السعودية أو مواطن بلا هوية وطنية مثله في ذلك مثل أعداد كثيرة نازحة تحيا بدول خليجية عدة. تقول الرسالة ان صاحبها متخرج في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، تقدم للوظيفة، تم قبوله في جميع مراحل الاختبارات في إحدى الشركات الكبيرة، وحين جاء الأمر لقرار التعيين رفض طلبه كونه لا يحمل بطاقة أحوال بل بطاقة القبائل ذات الخمس سنوات. وتم تعيين متقدم آخر غيره قد يكون أقل منه كفاءة وقدرة لكنه يملك جواز سفر وأحقيات المواطنة، باختصار ليس بدوناً. وصف قارئي نفسه بأنه مواطن من الدرجة الثانية وتمنى أن تصل رسالته للمسؤولين لإنهاء مشكلة تعصف بجيل كامل من الشباب الكفء. وصلتني الرسالة وأنا أتابع تلقي هيئة حقوق الإنسان السعودية لشكاوى الآلاف ممن يسمون بالبدون ويعانون من مشكلات حقوقية عديدة. اعتبرت أن قارئي محظوظ نوعاً ما، رغم توقيعه باسم مهندس مظلوم، مقارنة بغيره من عديمي الجنسية الخليجيين الذين لم تسنح لهم الفرصة لإكمال تعليمهم العالي.أعلم أن اهتمام هيئة حقوق الإنسان في السعودية يقابله اهتمام رسمي آخر في بقية الدول الخليجية لإنهاء هذه المسألة، لكن يبدو أن الاهتمام أبطأ مما نتصور وقد تمر عشرات السنين الأخرى قبل أن يجدوا حلاً لأولئك البشر.لا أفهم مدى استيعاب الغرب لنا بأعداد كبيرة، وقدرة حكوماته على منحنا جنسيات بلدانهم بعد سنوات قليلة من الإقامة على أراضيها، بثقة ودون خوف من زعزعة أو اهتزاز لاستقرار البنى السياسية، وفي المقابل لا أفهم عدم استيعاب أنفسنا كخليجيين لنا واستحالة اندماج دولنا مع ما تسميه بالنازح أو الغريب أو البدون، والبدون ليس غريباً بمعناه الطبيعي، فهو ليس ابن يوم أو يومين، بل إنسان وابن قبيلة أتى من مناطق مختلفة من الجزيرة العربية واستقر في واحدة من دول الخليج منذ ثلاثين أو أربعين عاما أو يزيد، بقي اسمه الغريب، لم يشفع له انتماؤه للمكان ولا طول مدة إقامته.أمضى عقوداً كاملة دون أن يتسبب بزعزعة الأمن أو الاستقرار، لم يؤذ بقدر ما تعرض للقهر والحرمان، أفلا يستحق من الحكومات جواز عبور ورقما وطنيا؟هل يمكن أن تشك الحكومات الخليجية بانتماءات البدون فلا تمنحهم الجنسية؟هل أثبت العرب في أوروبا انتماءات أوروبية معينة قبل حصولهم على هويات غربية؟ أم أن تقدير الغربيين لأهمية الإنسان عفاهم من عقدة الجنسية ؟ما مشكلتنا مع الفرد البدون؟ وما أهمية اعتبارنا له غريباً أو رفيقاً؟هذا الغريب فرد عاش وعانى بيننا، ورغم الاضطهاد السياسي الداخلي الذي يواجهه فليس له مكان آخر يلجأ إليه. حتى جزر القمر رفضت اخيرا عرضاً لتجنيس آلاف عدة من بدون الخليج، على رغم فائدة اقتصادية قد تعود عليها بالملايين جراء ذلك، جزر القمر في النهاية دولة نامية وعربية مارست شحها الطبيعي وبخلت بجنسيتها القمرية.ينمو جيل ثالث أو رابع من البدون، أبناء وأحفاد، ولا يزال اسمهم قبائل نازحة، ورغم قيام دول خليجية عدة بمحاولات للتخفيف من وجود البدون عبر تجنيسهم مثلاً إلا أن المشكلة لم تقترب من نهايتها إذ يقال ان عددا منح الجنسية في الإمارات لا يذكر بعدد البدون غير المحدد أصلاً.في الهند هناك أناس يعيشون في قاع المجتمع يشكلون طائفة المنبوذين ويعانون الظلم الاجتماعي، توكل لهم في العادة مهمة القيام بالأعمال اليدوية (الدونية) لأنهم من طبقة ينكرها عقد النظام الاجتماعي. يعملون في القاذورات ومعظم الأعمال التي ينزه بقية الأفراد عن تلويث أجسادهم برائحتها وعفانتها، ترمى عليهم الأوساخ وهم يسيرون في الطرقات، يجرحون ويلوثون دون أن يكون لهم الحق في الشكوى أو التذمر. يتعرضون لممارسات نبذ وتمييز في جميع المجالات، بما في ذلك التعليم والصحة والتوظيف والملكية.والحالة الخليجية لا تختلف كثيرا عن الحالة الهندية. فمع فارق حدة تدهور أوضاع المنبوذين لكن يجمعهم بالبدون عامل نكران وجودهم إنسانياً. يجمعهم أنهم في دول صعب أن تقدر الإنسان يوماً، فالإنسان أرخص ما تملك.هناك يضربون وهنا يشردون ويعيش بعضهم في صناديق بالصحارى.تعاقبهم الحكومات لأنهم فكروا يوماً بالاستقرار هنا، فيحرمون من الكهرباء والهاتف والتعليم والطبابة وفرص العمل...قرأت عن البدون أن بعضهم قد يلجأ لعقود زواج خاصة فيما بينهم لأنهم غير قادرين على إتمام عقد الزواج الرسمي مع عدم امتلاكهم لهويات رسمية توثق الزواج. ورغم ذلك فلا يجدون اهتماما رسميا لتنظيم ما يحدث.وإن كانوا تحايلوا ووجدوا حلولاً لإتمام عقود الزواج، فلن يجدوا حلاً لفقدانهم فرص التعليم العالي كالبقية... أعتقد أن دول العالم النامي تؤكد يوما بعد يوم استمرار تأخرها، بحفاظها على قدر من التخلف الفكري والعلمي ضمن محتوى عناصرها. ليس من مصلحة حكومة ما أن يكون هناك نسبة واضحة من الأمية بين سكانها. الأمية هي من تهدد الأمن وبجدارة وليس هبة الجنسية المحلية لفرد عاش عمراً على أرض الخليج، أطول من أعمار غالبيتنا الشابة.إن ارتفاع أعداد المحرومين والمضطهدين سيعود سلبا على الحكومات بوصفها المتضرر الرئيسي من نتائج تباطئها. ما هو مستقبل البدون؟ وما مستقبل انتمائهم وولائهم؟ أسئلة على الحكومات الخليجية أن تباشر بوضع إجاباتها وتقديمها لأناس حقيقيين يعيشون ضمن هذه المسطحات الرملية معتبرين أنفسهم مواطنين بانتظار أوراق ثبوت واعتراف وطن.

نادين البدير

كاتبه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=62169

و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه أيضًا :-

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=7744