الجمعة، 8 أغسطس 2008

«البدون» مواطنون بلا وطن


أن تكون منبوذا. فردا من القاع، مجهولا ومحروما من حياة الرفاهية بدول المجلس. تنتمي لجماعات انتهكت حقوقها إنسانياً، ولم يحدد عددها بدقة. لا تتعلم وقد تحرم من العمل ومن الزواج ومن الرعاية الصحية.أن تكون بدوناً.مستقرا بأرض لا تنتمي إليها، ولعلك تشعر بشيء كبير من الولاء لكنك تعلم أنه ليس ولاء متبادلا، فقد تلفظك الأرض التي نشأت عليها مع أول قرار بالطرد.بشع ذلك الشعور الذي وصلني، أرق تلقيته من قارئ سعودي ليس من السعودية أو مواطن بلا هوية وطنية مثله في ذلك مثل أعداد كثيرة نازحة تحيا بدول خليجية عدة. تقول الرسالة ان صاحبها متخرج في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، تقدم للوظيفة، تم قبوله في جميع مراحل الاختبارات في إحدى الشركات الكبيرة، وحين جاء الأمر لقرار التعيين رفض طلبه كونه لا يحمل بطاقة أحوال بل بطاقة القبائل ذات الخمس سنوات. وتم تعيين متقدم آخر غيره قد يكون أقل منه كفاءة وقدرة لكنه يملك جواز سفر وأحقيات المواطنة، باختصار ليس بدوناً. وصف قارئي نفسه بأنه مواطن من الدرجة الثانية وتمنى أن تصل رسالته للمسؤولين لإنهاء مشكلة تعصف بجيل كامل من الشباب الكفء. وصلتني الرسالة وأنا أتابع تلقي هيئة حقوق الإنسان السعودية لشكاوى الآلاف ممن يسمون بالبدون ويعانون من مشكلات حقوقية عديدة. اعتبرت أن قارئي محظوظ نوعاً ما، رغم توقيعه باسم مهندس مظلوم، مقارنة بغيره من عديمي الجنسية الخليجيين الذين لم تسنح لهم الفرصة لإكمال تعليمهم العالي.أعلم أن اهتمام هيئة حقوق الإنسان في السعودية يقابله اهتمام رسمي آخر في بقية الدول الخليجية لإنهاء هذه المسألة، لكن يبدو أن الاهتمام أبطأ مما نتصور وقد تمر عشرات السنين الأخرى قبل أن يجدوا حلاً لأولئك البشر.لا أفهم مدى استيعاب الغرب لنا بأعداد كبيرة، وقدرة حكوماته على منحنا جنسيات بلدانهم بعد سنوات قليلة من الإقامة على أراضيها، بثقة ودون خوف من زعزعة أو اهتزاز لاستقرار البنى السياسية، وفي المقابل لا أفهم عدم استيعاب أنفسنا كخليجيين لنا واستحالة اندماج دولنا مع ما تسميه بالنازح أو الغريب أو البدون، والبدون ليس غريباً بمعناه الطبيعي، فهو ليس ابن يوم أو يومين، بل إنسان وابن قبيلة أتى من مناطق مختلفة من الجزيرة العربية واستقر في واحدة من دول الخليج منذ ثلاثين أو أربعين عاما أو يزيد، بقي اسمه الغريب، لم يشفع له انتماؤه للمكان ولا طول مدة إقامته.أمضى عقوداً كاملة دون أن يتسبب بزعزعة الأمن أو الاستقرار، لم يؤذ بقدر ما تعرض للقهر والحرمان، أفلا يستحق من الحكومات جواز عبور ورقما وطنيا؟هل يمكن أن تشك الحكومات الخليجية بانتماءات البدون فلا تمنحهم الجنسية؟هل أثبت العرب في أوروبا انتماءات أوروبية معينة قبل حصولهم على هويات غربية؟ أم أن تقدير الغربيين لأهمية الإنسان عفاهم من عقدة الجنسية ؟ما مشكلتنا مع الفرد البدون؟ وما أهمية اعتبارنا له غريباً أو رفيقاً؟هذا الغريب فرد عاش وعانى بيننا، ورغم الاضطهاد السياسي الداخلي الذي يواجهه فليس له مكان آخر يلجأ إليه. حتى جزر القمر رفضت اخيرا عرضاً لتجنيس آلاف عدة من بدون الخليج، على رغم فائدة اقتصادية قد تعود عليها بالملايين جراء ذلك، جزر القمر في النهاية دولة نامية وعربية مارست شحها الطبيعي وبخلت بجنسيتها القمرية.ينمو جيل ثالث أو رابع من البدون، أبناء وأحفاد، ولا يزال اسمهم قبائل نازحة، ورغم قيام دول خليجية عدة بمحاولات للتخفيف من وجود البدون عبر تجنيسهم مثلاً إلا أن المشكلة لم تقترب من نهايتها إذ يقال ان عددا منح الجنسية في الإمارات لا يذكر بعدد البدون غير المحدد أصلاً.في الهند هناك أناس يعيشون في قاع المجتمع يشكلون طائفة المنبوذين ويعانون الظلم الاجتماعي، توكل لهم في العادة مهمة القيام بالأعمال اليدوية (الدونية) لأنهم من طبقة ينكرها عقد النظام الاجتماعي. يعملون في القاذورات ومعظم الأعمال التي ينزه بقية الأفراد عن تلويث أجسادهم برائحتها وعفانتها، ترمى عليهم الأوساخ وهم يسيرون في الطرقات، يجرحون ويلوثون دون أن يكون لهم الحق في الشكوى أو التذمر. يتعرضون لممارسات نبذ وتمييز في جميع المجالات، بما في ذلك التعليم والصحة والتوظيف والملكية.والحالة الخليجية لا تختلف كثيرا عن الحالة الهندية. فمع فارق حدة تدهور أوضاع المنبوذين لكن يجمعهم بالبدون عامل نكران وجودهم إنسانياً. يجمعهم أنهم في دول صعب أن تقدر الإنسان يوماً، فالإنسان أرخص ما تملك.هناك يضربون وهنا يشردون ويعيش بعضهم في صناديق بالصحارى.تعاقبهم الحكومات لأنهم فكروا يوماً بالاستقرار هنا، فيحرمون من الكهرباء والهاتف والتعليم والطبابة وفرص العمل...قرأت عن البدون أن بعضهم قد يلجأ لعقود زواج خاصة فيما بينهم لأنهم غير قادرين على إتمام عقد الزواج الرسمي مع عدم امتلاكهم لهويات رسمية توثق الزواج. ورغم ذلك فلا يجدون اهتماما رسميا لتنظيم ما يحدث.وإن كانوا تحايلوا ووجدوا حلولاً لإتمام عقود الزواج، فلن يجدوا حلاً لفقدانهم فرص التعليم العالي كالبقية... أعتقد أن دول العالم النامي تؤكد يوما بعد يوم استمرار تأخرها، بحفاظها على قدر من التخلف الفكري والعلمي ضمن محتوى عناصرها. ليس من مصلحة حكومة ما أن يكون هناك نسبة واضحة من الأمية بين سكانها. الأمية هي من تهدد الأمن وبجدارة وليس هبة الجنسية المحلية لفرد عاش عمراً على أرض الخليج، أطول من أعمار غالبيتنا الشابة.إن ارتفاع أعداد المحرومين والمضطهدين سيعود سلبا على الحكومات بوصفها المتضرر الرئيسي من نتائج تباطئها. ما هو مستقبل البدون؟ وما مستقبل انتمائهم وولائهم؟ أسئلة على الحكومات الخليجية أن تباشر بوضع إجاباتها وتقديمها لأناس حقيقيين يعيشون ضمن هذه المسطحات الرملية معتبرين أنفسهم مواطنين بانتظار أوراق ثبوت واعتراف وطن.

نادين البدير

كاتبه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=62169

و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه أيضًا :-

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=7744