الجمعة، 26 ديسمبر 2008

عمرنا الافتراضي أقصر مما نتخيل


نتزوج مبكرا، نطلق مبكرا، نتقاعد مبكرا، وتنتهي أحلامنا مبكراً فنموت مبكرا ولو استمرت أنفاسنا بالصعود والهبوط...
نحب الأشياء سريعاً ونكرهها سريعاً، وهوسنا إنهاء العقود سريعاً... عقدنا مع الحرية، مع الحياة، مع العقل، كل ما حولنا له عمر افتراضي يموت وينتهي في يوم سريع المجيء.
ليس هناك قيمة لذوي القيم الحقيقية، ليس هناك أهمية لأصحاب التجربة والقصة الطويلة. تبدأ الحياة شابة سعيدة وتنتهي كهلة تعيسة.
الأعمار المفضلة الصبية الفتية، البكر التي لم تعارك الحياة بعد.
الأعمار المنبوذة الكهلة العريقة، الناضجة التي عرفت شيئاً عن أسرار الكون.
العجوز: هو العاجز عن الحركة وعن التفكير وإن كان شابا في العشرين، لكننا نمنح صفة العجز لرجال ونساء في قمة العطاء، المعيار هو عدد سنوات العمر.
- ينتهي عمر الزوجة بوقت محدد، تنتهي قدرة المرأة على العطاء فور انقطاع دورتها الشهرية.
نهاية عهد الإنجاب يعني بداية عهد آخر داخل نفسها وخارج حياتها المألوفة. اكتشاف حياة جديدة كانت مشغولة عنها بمحاولة التوفيق ما بين مسؤوليات العمل والأطفال.. لكننا نقبرهن أحياء، نعاقبهن على سنن الكون فننهي عقد خدماتهن مبكراً.
- تنتهي حاجة المجتمع للرجل فور وصوله سن التقاعد، خبرته. تجاربه. علمه. محصلة خرج بها من دنيا العمل. كلها تذهب هباء. مصيره وحيداً، بعيدا عن صخب المهنة، مصيره اكتئابا وحزنا وانتظارا للنهاية..
- ينتهي عمر المذيعة بانتهاء رونقها..
كثير من القنوات العربية تختار المذيعة بصفتها الحسناء الشابة لا بصفتها الإعلامية، الجمال له دور محبب على الهواء، نحن في منطقتنا الفضائية نمحو الدور الإعلامي ونبرز المقومات الشبابية... نتناسى أن مهنة كشف الحقائق مهمتها أبدية...لذا تخرج المذيعة من حلبة المنافسة حال يبهت جمالها وتتقدم بالسن.
- في مدينة كدبي لا يعد مشهد كبار السن مشهداً مألوفاً... معظم السكان هم في عمر الشباب... وحين يفتقر المكان لطاعنين في السن، تخلو الأجواء من معالم الأمان.
- يرمى أثاث المنزل فور انتهاء موضته... نحن لا نتعلق بالأشياء تماماً مثل إهمالنا للإنسان... لا نتعلق بما لمسناه يوماً، لمائدة جمعتنا يوماً. مثل إهمالنا للإنسان.
- كل شيء بالنسبة لنا جسد سيتفتت يوماً أو نميته غصباً.
* حين تنتهي مدة حكم الرؤساء في العالم الذي يصدر أنواع الحضارة، لا يجزع الرئيس، لديه خطط جديدة. يؤلف الكتب... يحاضر في الجامعات... يؤسس جمعيات حقوقية، أو يسافر ليزور ويطمئن على راحة الشعوب الفقيرة..
ولأن الأمان منعدم هنا فإن رؤساءنا يتمسكون بالكراسي، مثلهم مثل تمسك أصغر موظف في الدولة بوظيفته... ليس هناك أمان مستقبلي. وهل من حق خريف العمر أن يملك الأحلام والإبداعات؟؟ تنتهي الرئاسة فيمحى صاحب المنصب من الوجود ويمحى دوره. تمحوه الثقافة القاصرة. قد يأتي ذكره صدفة فيتساءل أحدهم/ أين هو الآن...
عموما ليس هناك رئيس عربي نجهل مستقبله بعد انتهاء عهده فغالبيتهم لم يتركوا العروش سوى بأمر القدر، وأضرحتهم عناوينها معروفة..
لكن لا مجال للسؤال عن مستقبل بيل كلنتون نجم المحافل الدولية الذي زاد نشاطه بعد انتهاء رئاسته... واتضحت له أدوار جديدة في الحياة..
لا أحد يجهل مصير مهندس النهضة مهاتير محمد صاحب شعار (ماليزيا تستطيع) استمر بالمشاركة السياسية بعد انتهاء فترة رئاسته، يقدم المشورات للبلدان النامية... محاضرات ومؤتمرات وحضور وحياة لا حدود لها.
* في أحد المقاهي ببلدة أوروبية صغيرة، شاهدتني وحيدة أخرى على طاولة مجاورة... اقتربت وبدأنا نتحدث.
كانت بعمر الخمسين... جاءت إلى البلدة لتعزل نفسها قليلا عن وسطها المعتاد لتركز فيما تريد فعله الآن بعد تقاعدها... قلت لها هل ستمضين في السفر والترحال... قالت: من أين لي بالوقت، علي أن أبدأ بالعمل. أدرس الآن لأحقق حلماً راودني منذ الطفولة وهو حلم الإخراج... في الخمسين وتستعد لتكون مخرجة تلفزيونية... حاولت وقتها ألا أتذكر غالبية نساء الخمسين هنا...
وسواء استطاعت تلك السيدة الأوروبية أن تدخل مضمار مهنة جديدة أم لم تتمكن، فالمهم أن لا حواجز تقليدية أو سخرية مجتمعية تمنعها من الحلم... قالت لي «الله يمنحنا الحياة لنتشبع منها كلياً... والمحظوظ فقط هو من يملك عددا من الأحلام، والأكثر حظا هو من يكتب له العمر لتحقيقها، وأنا كتب لي العمر فيجب أن أستغله... ليس عندي ما يعطلني، خاصة بعد أن تزوج ابني الوحيد».
فحيث المكان الذي لا يعترف بفصول العمر، بل يبقى العمر فتياً يعيش فصلا واحدا هو الربيع والألوان... حيث المكان الذي يسمح للعمر كله بأن يحلم.
هناك لا ينجبون الكثير من الأبناء. لديهم جولة حياتية جديدة تنتظر خبرتهم ونضجهم المستقبلي... وعند العجز لديهم ضمان اجتماعي يغطي نفقاتهم.
على عكسنا. نحلم بإنجاب المزيد والمزيد من الأطفال، الأمان الذي سيحيطنا في الكبر بعدما تلفظنا الجماعة.
* في الوقت الذي يظهر به صغار السن في معظم الإعلانات التجارية للترويج عن بضاعة لن يروج لها سوى الجسد النضر والبشرة الفتية وسنوات العمر القليلة، كان هناك إعلان تجاري جديد لشركة Damac يصور رجلا وامرأة في ربيعهما الستين، يقفان متلاصقين على سطح مركب وذراعيهما تحيطان بعضهما.
هي تنظر إليه وهو ينظر للأفق، للمستقبل.
أيا كان مغزى الإعلان، فهل سيسمح لي بالستين أن أنظر للمستقبل؟ أن يحيطني بذراعه دون خجل، أن أحلم من جديد، وأن تتوالى الأحلام كما توالت في سن الشباب.

نادين البدير
كاتبه و إعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-

http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=101185

* المقاله منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9119