الجمعة، 13 مارس 2009

في معرض الحرام...


نكتة حقيقية جرت أحداثها في معرض الكتاب الأخير بالرياض.. حيث شاركت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعرض ممثلة عبر مكتبها وجناحها الذي تعرض من خلاله منجزاتها الاجتماعية.. جناح الهيئة كان الجناح الوحيد بالمعرض الذي لا يعرض كتباً، ويتميز عن بقية الأجنحة بعرض زجاجات مشروبات روحية وملابس نسائية وطلاسم سحرية تم ضبطها. يقول المسؤول عن الجناح انه لا يوجد لديهم ما يبيعونه وتقتصر معروضاتهم على المنكرات التي يضبطونها في جولاتهم..كما قامت الهيئة بتحويل عشرين إلى ثلاثين كتابا يومياً إلى إدارة المطبوعات للفحص..
نجاح الهيئة لا يشاطرها به أحد. الهيئة التي تنبذها الملايين تمكنت من الوصول إلى محفل العلماء بل ومزاحمتهم في الأجنحة والأركان..
في معرض المنكرات، كان من المناسب أن تشارك الهيئة فتعرض الفسق والمنكر مثلها مثل بقية المؤلفين والأدباء. معرض الكتاب صار معرضاً للحرام.
في جناح الهيئة عرضت الطلاسم السحرية بدلا عن الكتاب...
الرسالة تقول: المفكر زنديق كالساحر.
لسان حال الهيئة يقول للجميع: الآخرون لا يبيعون كتباً بل فسقا.
عرضت الموبقات في محفل للثقافات والإبداعات.
ليس الهدف إعلان عن حرام قدر ما هو سباق لتحويل السطحي إلى محور للفكر العام بدلا عن دوران الفكر حول رأي لهرطقي أو قول لزنديق. تماما مثلما تحول قياس اللحية والثوب لوهم ثقافي.
*
لكن ما حدث في معرض الكتاب بالرياض ليس حالة خاصة بفكر منتشر في السعودية. إنها حكاية المعرفة عند العرب، وقصتهم مع المطالعة.
صحيح أن ولا معرض كتاب عربي يصيبه الذي يصيب معرض الرياض فيشوهه ويضيع حلاوة الاحتفالية السنوية بالعلم. إلا أن الفكرة العربية واحدة في مختلف ومعظم الأماكن: لا تقرأ.
مثلما اقتيد المثقفون إلى المحارق ليشتعلوا أحياء زمن محاكم التفتيش، يقتادون الآن إلى مقصلة التكفير، تشوه سمعتهم، ينفون للخارج، يتعرضون للذل حالهم حال المجرمين وسافكي الدماء. وسفك دم الجهل جريمة ليس لها صك غفران.
ما يحدث في المنطقة العربية وتحديدا في الأماكن التي يقتات بها المتطرفون، نسخة جديدة من عهد الانحطاط الأوروبي. لكن قرون الظلمات الأوروبية انتهت منذ مئات السنين، فكم سيتطلب الوقت في المنطقة العربية للخروج من العتمة التي تخيم عليها. وهل هناك أمل بعصر نهضة عربي؟
معرض الكتاب الحقيقي كتبه لا رقيب عليها، ولا تلوثه لائحة سوداء لمحظور أو ممنوع.
هذا المعرض الحلم يعجل من فرص النهضة، زيارته لأي مدينة أو عاصمة تهدد من يعتمد مبدأ التعتيم نهجاً، ليس غريبا إذاً أن تعد له العدة مسبقاً.
يتجول الجاهل في معرض الكتاب لتقييم المعلومة وتحديد مقدار الجرعات الثقافية الموجهة للأفراد وفحواها أيضاً!
سخروا من المثقفين في عقر دار الثقافة، أرادوا أن يثبتوا للجميع سلطتهم التي تفوق الفكر، وأثبتوها.. بعثروا المتجمعين، منعوا الاختلاط (رغم أن قضيتهم لا تمت للاختلاط بصلة) أهانوا الكتاب، ساقوا المفكرين للتحقيق.. تعدوا على كاتبة وحرموا قراءها من توقيعها.. فعلوا كل ما يحلو لهم.
ولم يعاقبوا، انتقدوا صحافياً فقط.
لم يعاقبوا لأنهم لم يكونوا يعبثون في السنوات الثلاثين الأخيرة، عملوا جاهدين حتى تمكنوا من توسعة دائرة مناهضي المعرفة، امتدت الدائرة لتشمل الشعوب. ما عاد المسؤول يلاقي صعوبة في منع الناس عن القراءة، صار قرار الحظر يصدر من الأفراد أنفسهم. حتى وإن دفعهم الفضول للقراءة فإن حكم التكفير جاهز ضمنياً وقبل البدء بالصفحة الأولى.
أذكر معرض الكتاب في المدرسة. دخلت بعض الطالبات وصرن ينصحننا بصوت مرتفع: ابتعدوا عن لهو الكتاب يا بنات، واشترين كتب الدين فهي ما سينفعكم في الآخرة. ولهو الكتاب بنظرهن كانت روايات الأدب العالمي المترجمة والألغاز وقصص أغاثا كريستي البوليسية وأخرى عاطفية.
فهمنا، قرأت اليوم دينا، وغدا دينا وبعد غد دينا والذي بعده، ثم ماذا في غرف الانتظار (العربية) بالصالونات وعيادات الأطباء، يندر أن تصادف الكتاب، وإن حدث وأخرجه أحدهم فكتاب أذكار وأدعية.
أما سائق التاكسي (بالعالم المتحضر) فيمسك كتابا بانتظار راكب، وبائع الساندوتشات يقلب الصفحات بشغف بدل الثرثرة بانتظار زبون. ومحصل التذاكر وركاب الميترو. الشعب كله يسير وهو يقرأ، يقرأ كل شيء ودون شروط.
تسير القاعدة الشعبية العريضة وهي تقرأ. هكذا تفسر أسس الحضارة. حيث القاعدة تحتل القمة. وحيث الهرم مقلوب.
لكنهم كفرة.

نادين البدير
كاتبه و اعلاميه عربيه سعوديه

* المقاله منشوره في جريدة الرأي الكويتيه :-
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=118260

* و منشوره في جريدة الوقت البحرينيه :-
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9947